سعيد عقل - أحمد سعيد قاضي
بذلت جهداً مضنياً لكي أكظم على ما في نفسي لأيام وأيام، أحاول ألا أبوح ما في صدري في قضية غدت مبتذلة الآن، لكنها ستبقى تشغل النقاد والمفكرين ردحاً طويلاً من الزمن كلما حاولوا النظر في التاريخ أو الأدب! قضية موت سعيد عقل حركت مشاعر التشفي والفرح في جوف الكثيرين، وفي نفس الوقت أشعلت مشاعر الأسى والحزن في صدور الكثيرين، لكن السؤال الأصعب يبقى للفلسطينيين ويخصهم أكثر من غيرهم لأسباب ليس بالخافية على أحد.
قبل عدة سنوات وأنا أقرأ عن تاريخ لبنان الحديث، كنت أشاهد فلماً وثائقياً بالتحديد آنذاك، رأيت لأول مرة هذه الشخصية التي باتت مرتبطة بمشاعر الكراهية والغيظ، وملتصقة التصاقاً لا فكاك منه بكل المشاعر السيئة الجارية في عروقي ضد العدو الصهيوني وأذنابه، بل أكثر من ذلك بكثير، فقد غدا رمز الفاشية والنازية الجديدة، ولعل وقع كلماته كان أشد ما يمكن أن يسمعه الفلسطيني، فليس يسمع هذه الكلمات الحاقدة من أحد الصهاينة وإنما من عربي، وليس أي عربي، كان واحداً من القوميين الذين لطالما تغنووا بالعروبة وفلسطين والقدس.
بعد البحث والمطالعة أكثر عن شخصية هذا "الكائن" الذي يجاهر بالدعوة إلى التخلص من الفلسطينيين، بل وإبادتهم عن بكرة أبيهم، ودعوة الجيش الصهيوني لتحرير جنوب لبنان من الفلسطينيين وإزالتهم عن الوجود، وشكره العلني للإسرائيليين على مجازرهم بحق الفلسطينيين واللبنانيين، وهو بذلك أقل ذكاءً من نظرائه "الصهاينة العرب" كما بات يطلق عليهم، ارتج جسدي لمدى مقت وبغض سعيد عقل على الفلسطينيين الذين ما زالوا يرزحون تحت احتلال استيطاني عنصري لا يجد غضاضة في حصد أرواحهم وإذاقتهم أشد أنواع البؤس والعذاب كل يوم، وحتى أخطاء منظمة التحرير والفدائيين آنذاك لا تبرر مجرد اشتمام رائحة هذه الضغينة تجاههم.
ليس موقفي عنصرياً أو نابعاً بحكم انتمائي الفلسطيني، فأنا لست من مسجوري الانتماء القومي، وإنما لإنتمائي للمظلومين ومنهم الشعب الفلسطيني.
*
تمنيت وقتذاك أن أرى سعيد عقل يموت لكي أقول "الله لا يرحمك"، وبقيت على هذا الأمل لمدة طويلة إلى أن طوت ظروف الحياة وأحداث الإرهاب اليومية الكثيرة والتعذيب والقتل الجماعي والاضطهاد والظلم اليومي للفلسطينين صفحة سعيد عقل في ذاكرتي، وقد نسيت أو تناسيت هذا الاسم إلى أن بزغ نجمه من جديد عندما مات!
لا أخفي بهجتي بموت أحد الفاشيين الجدد، بل أطلقها لتمرح وتجول في كل البقاع، رغم أن بعض "الإنسانويين" يشتمون وينتقدون ويملأون "دنيا وسائل التواصل الاجتماعي" والصحف ووسائل الإعلام احتجاجات، قد يصل بعضها إلى حد الشتيمة والبذاءة، ضد كل من يحاول التشفي بموت إنسان! إلا أنني بدوري أدركت أن الأمر ليس بالترحّم على موت سعيد عقل من عدمه وإنما الابتهاج بموته من عدمه!
وفي هذا الإطار تترك الأمور على حابلها ونابلها، فلا مكان للعقل، وإنما للقلوب المفجوعة، التي تكابد أشد صنوف الظلم والقهر كل يوم بل كل لحظة دونما نصير يقف معها. فلا أكفأ من الوجدان في الحكم على كذا أمور، ووجدان الفلسطيني الذي فقد، ولا يزال يفقد كل يوم، الأخ والأخت والأم والأب والابن والابنة والصديق والصديقة والجد والجدة، تحت ركام البيوت المقصوفة أو تحت الثرى مدثرون بعد أن غربلهم رصاص المحتل لتستحيل أجسادهم كشرائط رقيقة نقية مخضبة بالدماء أو خلف القضبان مغيبون.
تترك الأمور إلى القلوب التي فقدت، وما تزال تفقد، البيوت والأرض والبلدات وأشجار الزيتون والتراب وعرق الجبين..القلوب التي تجور عليها أرضها بعد أن أثقلت بالحواجز والمعسكرات والمستوطنات والاعتداءات وشتى صنوف العنصرية والجدار وغيرها الكثير الكثير..
وماذا يمكن لهذا القلب أن يقول؟ أعتقد من حق هذا القلب أن يغني ويفرح لموت إنسان نازي يصطف مع الظالم السفّاح الصهيوني حتى لو كان من دعى إلى إبادتهم شعب غير الشعب الفلسطيني، أي شعب، فمن يقف إلى جانب السفّاح، خصوصاً شخص من كبار الأدباء والمثقفين، لا مناحة عن الوقوف ضده مهما كانت جنسيته وعرقه ودينه وهويته، ولا ضير من التشفي بموته كما نتشفى بموت كل قاتل مجرم صهيوني، فمن يدافع عن الظالم ويشكره لارتكابه أبشع الجرائم هو ظالم لا محالة، ولا يشفع له عقله أو إرثه الفكري العظيم.
وخسارة شخص كهذا هي خسارة أحد الأبواق الصهيونية العربية، ولا يخفى على أحد أن كل ظالم لا يدوم من دون شريحة من المثقفين تناصره وتؤازره وتبرر وتغيب الوعي الشعبي ليحلو له فعل ما يبتغي من مذابح وجرائم، لذا فإن سعيد عقل أحد هذه الأدوات الثقافوية الصهيونية وبذلك لا يجب محاسبته على أنه إنسان وشاعر كبير بعيداً عن الاعتبارات العنصرية ودفاعه عن أشد الكيانات الإرهابية تطرفاً ووحشية.
وأهم من هذا وذاك، أن هذا التشفي نابع من القهر الذي يقبع في القلوب التي ترى العالم الظالم يهب فوراً لمهاجمة "داعش" وغيرها من فروع القاعدة في كل بقاع الأرض لارتكابها الجرائم، ولا نرى أحداً منذ الاحتلال البريطاني، أي منذ ما يقترب على المائة عام، يقوم بأي جهد ولو قليل لنصرة الشعب الأعزل الذي الضاربة جذوره في الأرض لاجماً بصدره العاري كل محاولات اقتلاعه، في واحدة من أطول الملاحم التاريخية التي تكتب بدماء الشعب الفلسطيني.
وفي الختام، يُذكر الطيبون بالخير بعد الموت، ويُذكر السيئون بالسوء، وهذا ما يتبقى من الإنسان بعد الفناء، وهذا الإرث نتيجة مسار أعمال كل شخص وخصوصاً إن كان مفكرا أو مثقفاً أو أديباً كبيراً مدركاً لدقائق الأمور كسعيد عقل المشبع بالعنصرية.