الفعل الفلسطيني المقاوم..على سبيل الحصر لا الشمول!
يتنازع الساحة السياسية الفلسطينية-نظرياً على الأقل- طرحين حول نمطين متباينيين-لا متناقضين-من أنماط المقاومة إزاء أساليب المواجهة مع المحتل الصهيوني. أول الأنماط المطروحة هو ممارسة المقاومة الشعبية كسبيل وحيد حي لمواجهة الاستعمار الصهيوني المتغول في ظل غياب توازن القوى ووجود فجوة فسيحة في الإمكانيات العسكرية. وتكرس هذا المسار بعد جنوح حركة فتح إلى العمل السلمي بشكل تام واتخاذها من المفاوضات سبيلا بعد الانتفاضة الثانية بدلاً من المزاوجة بين الفعل المقاوم العسكري والمفاوضات. والثاني هو التمسك باستمرار المقاومة المسلحة وانتهاجها سبيلاً ناجعاً للتحرير خاصة إذ تمسكت حركتا حماس والجهاد الإسلامي بالعمل العسكري كنهج وحيد فعّال لتحرير فلسطين نقيض للنهج السلمي الفتحاوي منذ 2005 بصدد مسألة التحرير.
بعيداً عن معضلة انسلاخ النظرية والتطبيق، وانفصام الفكر والفعل المقاوم لدى جميع الفصائل، وإن بدرجات مختلفة، فإن الشعب الفلسطيني يمتلك إرثاً تاريخياً طويلاً من النضال ومخزون هائل من التجارب والفعل الثوري والمقاوم الذي يتيح له إمكانية تعدد وتنوع واتساع لائحة خيارات المقاومة المنتهجة تكيفاً مع الظروف المعاشة، وهنا تكمن مشكلة حادة تتمثل في حصر خيار الفعل المقاوم بين المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة نظرياً أولاً، وبدون تعريف محدد ثانياً، وبتطبيق مشوّه ثالثاً على الساحة الفلسطينية في الحقبة الحالية، وهو قصور ناشئ عن الانقسام وغياب الرؤية المتكاملة الوافية حيال تحرير فلسطين لدى كافة الأطراف الفلسطينية، وضعف التفكير الاستراتيجي والمنظور الشمولي للمسألة، والارتكاز على شعارات عامة يشوبها الغموض والضبابية مثل المقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية والمفاوضات التي ينبغي أن تشكل بطبيعة الحال أدوات ضمن رؤية أعمق لآلية تحرير فلسطين أو تحسين شروط إدارة الصراع.
*
يطلعنا تاريخ الشعب الفلسطيني على أشكال وأساليب كفاحية كثيرة مارسها الشعب الفلسطيني طوال تاريخ احتلاله، ينبغي أن تستخلص منها العبر بعد دراستها دراسة محكمة لإعادة إنتاجها بشكل جديد قد استخلص العبر من الممارسات والتجارب السابقة إلى جانب تقليمها وتشذيبها لتتكيف والظرف الفلسطيني الراهن. ويمكن الاستفادة كذلك من ثورات وانتفاضات والتاريخ النضالي للشعوب الأخرى وتكييف سبل نضالها مع واقع فلسطين والسياق المحلي الفلسطيني في إطار الظروف الإقليمية والعالمية في الوقت الحاضر.
تتنوع وتتباين أشكال المقاومة الفلسطينية على مر التاريخ، وأساليب المقاومة التي يمكن ادخالها وتكييفها مع السياق الفلسطيني، من المقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية وضرب الصواريخ، إلى العصيان المدني والمقاومة الشعبية واستغلال الصحافة والإعلام بشكل أمثل، وانتهاج الخط السياسي والدبلوماسي كذلك، والاضرابات العمالية، وحملات المقاطعة، وغيرها الكثير من الأدوات الثورية الفعالة بشكل مبهر إذا ما ترجمت أفعالاً حقيقية على أرض الواقع مستندة لحوارات ونقاشات واستراتيجية عميقة البُعد يضعها كل الفلسطينيون.
فما لا يجب اغفاله هو أن الصراع مع الكيان الاستعماري صراع معقد تناحري عميق يشكل فيه الشعب الفلسطيني الحلقة الأضعف اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، لذلك في هذه الحالة، يجب طرق كل الأبواب دفعةً واحدةً وعدم ترك الساحة مفتوحة للكيان الغاصب لاستغلالها وعكسها لطعن الفلسطينيين. وتستطيع النخبة السياسية الفلسطينية، إذا أحسنت التصرف، ببلورة حالة تحررية عجيبة تذهل العقول وتبلبل النفوس، وذلك بوضع يديها على مكامن قوة شعب، وليس أيما شعب، شعب عاش طيلة حياته مقاوماً مكافحاً مبتكراً مبدعاً في أساليب تكيف مقاومته للاحتلال لاثبات وجوده وتعزيز إمكانية استمراره، وهذا ما يعطي الشعب الفلسطيني ميزة إضافية على أي شعب، يجعل الهزيمة مستحيلة والهزيمة أكيدة للكيان الإسرائيلي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أي شعب لا يمكن قهره مهما كانت طبيعته وظروف تشكيله وتاريخه.
*
أهم ما يمكن تأكيده وتتمحور حوله عملية نفي الاحتلال، بعد الوحدة الوطنية، هو تنوع أساليب المقاومة واتجاهاتها بما يضمن مشاركة العدد الأكبر من الجماهير الفلسطينية في عملية الفعل المقاوم، ونجاعة استهداف كافة مواطن ضعف المشروع الصهيوني وكسر أذرعه الممتدة في كافة شؤون الشعب وزوايا الوطن. إذا أن المشروع الوطني الفلسطيني ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار حيثيات الظرف الاقليمي وطبيعة الكيان الإسرائيلي التي تنطوي على قوة هائلة لا يعادلها الشعب الفلسطيني إلا باستراتيجية وطنية متكاملة تشمل كافة أساليب الفعل المقاوم وهنا ينبع معادل القوة الفلسطينية في ظل الظرف العربي-الدولي الراهن وعجز البرجوازيات العربية وخيانتها.
فقد أوصلت، على سبيل المثال، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987-1993م فلسطين القضية إلى المنابر الدولية وإلى وعي كافة البشر على وجه الكرة الأرضية، ليدرك العالم وجود الطفل الفلسطيني تحت احتلال مجرم دموي يتصدى لرغبة الطفل الفلسطيني بالتحرر بالرصاص. وقد انعكست الصورة، ليغدو الطفل الفلسطيني تمثّلاً لداود الأعزل الذي قتل بالحجر العملاقَ طالوت أو جالوت المدجج بالسلاح والذي بات يرمز للصهيوني المجرم. وهذه الصورة الجديدة، التي خلقتها الانتفاضة الأولى، ما برحت تؤلب الشعوب في كل أنحاء العالم على المحتل الغاصب. وهي كانت انتفاضة ذات طابع شعبي مدني بحكم الطبيعة الشعبية الغالبة على معظم فعّالياتها.
أما الانتفاضة الثانية (أو انتفاضة الأقصى) 2000-2005م بحلتها المختلفة تماماً عن الانتفاضة الأولى قد هزت الكيان ومستوطنيه ومستعمراته وخلخلت أهم أسسه وهو الأمن، وأربكت الحسابات بعد فشل المسار التفاوضي التكميلي لأوسلو والمتمثل في مفاوضات كامب ديفيد، فهذا اليأس والاحباط السياسي أدى بدوره إلى تعجيل الانفجار وانفلات الأمور من عقالها باتجاه الانتفاضة الثانية التي تكبد الاحتلال خلالها خسائر فادحة في البشر والاقتصاد لم يشهد لها مثير مسبقاً. وقد كانت انتفاضة مسلحة لك ما تعنيه الكلمة من معنى خصوصاً مع دخول العام الثاني للانتفاضة الثانية.
ونجد كذلك، مثلاً، تجارب عصيان مدني نيّرة في تاريخ فلسطين الحديث كتجربة بيت ساحور، إضافةً إلى المقاومة الصاروخية وهي تجربة نوعية جديدة في قطاع غزة لم توفى حقها في الدراسة والتحليل ما زالت تحت التطور المتسارع المثير للحيرة والاعجاب، والعمليات الاستشهادية إذا ما استُقر على إجابة لسؤال الحق الأخلاقي وحساب دقيق لارتداداتها الإقليمية والدولية، فقد كانت تجربة مثيرة للاهتمام وذات أثر عميق على الكيان الغاصب في الأرض المحتلة في انتفاضة الأقصى، ناهيك عن استغلال الإعلام بطريقة مثلى، وتعميم وترسيخ عقيدة نضالية كفاحية ووعي جماهيري سياسي.
هذه بعض أمثلة على أساليب مقاومة ونماذج تاريخية كثيرة ماثلة أمام النخب السياسية الفلسطينية للاستفادة منها، وهي تشكل الذخر الاستراتيجي، والورقة الرابحة في جعبة الفلسطينيين فلماذا القصور على بعض الأساليب؟ وفوق ذلك تنظيراً لا تطبيقاً! وإن تطبيقاً-في بعض الأوقات أو النقاط الجغرافية المحدودة-فلا لبس في أنه ضمن رؤية هشة قصيرة أبعد من أن تكون استراتيجية تامة متصلة.
*
لكل عمل ثوري وانتفاض شعبي سلبيات وايجابيات، لا تشكل السلبيات جزءاً من طبيعة الحراك نفسه وإنما من القائمين عليه، إذ أن أي فعل ثوري يحمل كل المضامين الإيجابية مع طرح السياق التي يحدث فيه جانباً، فمضامين التخلص من الخوف والانتصار للعدالة والانقلاب على الظلم والانتصاب بعد الركوع وطلب الحرية والكرامة والدفاع عن الإنسانية والوجود كلها تحملها موجة الفعل الثوري سواء ضد الاحتلال والاستعمار أو ضد الحكم الديكتاتوري، وهذه القيم والمضامين تطغى على أي حراك ثوري، وتغمر كلمات ثورة..انتفاضة..حراك اجتماعي..مقاومة..بهذه المعاني والدلالات الإيجابية الحسنة وتنقع بها من أخمص القدمين إلى أعلى الرأس.
لكن الثورة أو الحراك الثوري هي تحرك قطاعات بشرية يقوم عليها ويخططها وينفذها ويرتقي أو يحط بها أناس ونخبة تقودها، ولا إنسان معصوم عن الخطأ أولاً، وللشرائح المختلفة من الناس وعيهم الخاص ومصالحهم المختلفة لذلك فإن النزاعات الداخلية والاستراتيجيات القاصرة، والاستخدام الغير مدروس والمتجرد عن السياق العام، والرؤى التي يشوبها الضعف والجمود أو السذاجة، والحسابات غير الدقيقة، والتغيرات الموضوعية قد، بل ولا بد، أن تفضي إلى نتائج غير محمودة وأعراض سيئة، بل وربما تنتهي الحال بالحراك إلى الفشل الكامل أو الجزئي، لذلك ينبغي على الفلسطينيين دراسة التجارب السابقة وتجارب الغير التاريخية للاستفادة من الأخطاء لتقليص نسبة الخطأ والسلبيات الناتجة عن القصور البشري إلى الحد الأدنى ليسير الحراك الثوري بالدرجة القصوى من السلاسة في التعرجات التي سيصطدم بها لا محالة أي حراك ثوري في فلسطين بدرجة أكثر وأعظم بكثير من غيرها كم الدول في هذا المجال.
وحجر الزاوية في أي تفكير استراتيجي هو اعتماد كافة أشكال المقاومة بشكل أمثل يضمن، بطبيعة الحال، مشاركة شعبية واسعة لأن آلية العمل المقاوم هذه توفر ميزة أن كل شخص يعمل حسب قدراته وإمكانياته.